إن من يقسم لا بد أن يقسم بعظيم ، لذلك فالإنسان مطالب بالقسم بالله تعالى وحده إذ لا عظيم غيره
أما الله جل جلاله فإنه يقسم بما شاء من مخلوقاته للسبب نفسه : أنه لا عظيم غيره
فهو عز وجل يقسم ببعض من مخلوقاته التي يجدر بالمرء أن يتأملها ويتفكر
فيها ، فقسمه من باب جذب أنظار البشر إلى عظمة أمور بعينها لئلا يحجبها
إلفنا لها فتصبح شيئا عاديا لا يستحق التأمل
وإن من آثار التقدم العلمي انه صار يكشف لنا عن بعض الجوانب الخفية لبعض
الأمور التي أقسم الله عز وجل بها ، مما يساعد عل فتح أبواب جديدة للفكر
لينطلق متأملا في عظمة خلق الله وبديع صنعه
ونقرأ القسم في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، لكن ثمة ميزة نلاحظها في آية واحدة فقط ، وقسم واحد خُــص من الله جل جلاله بوصف عظيم
قال الله عز وجل في سورة الواقعة : " فلا اقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم
لو تعلمون عظيم . إنه لقرآن كريم . في كتاب مكنون . لا يمسه إلا المطهرون
. تنزيل من رب العالمين "
فلماذا خص الله عز وجل مواقع النجوم من بين كل ما أقسم به ليؤكد لنا أنه
قسم عظيم ؟ بل لماذا خص المواقع بالقسم ، ولم يقسم بالنجوم نفسها مباشرة ؟
من خصائص القرآن الكريم أنه ميسر للفهم لكل امرئ بحسب عقله وفكره ،
فالعربي الذي نزل القرآن في أيامه أو بعده بقليل كان يفهم أن مواقع النجوم
التي نراه عظيمة ، لأن إنسانا لا يستطيع بلوغها ، ولعظمتها تلك أقسم الله
عز وجل بها
وهذا تفسير بسيط مريح لا غبار عليه
أما في العصر الحديث وبعد التقدم العلمي الكبير لا سيما في مجال الفلك ،
ظهرت حقائق جديدة ومدهشة تبين بجلاء لم أقسم الله عز وجل بمواقع النجوم ،
وخص هذا القسم بوصف العظمة
فقد ثبت علميا أن الإنسان لا يرى النجوم أبدا
قد يبدو ذلك غريبا مذهلا ، وهو في الحقيقة آية من آيات الله المبهرة
فإن ما نراه في صفحة السماء ليس إلا لمواقع التي كانت النجوم فيها ، ثم غادرتها وانتقلت في جريانها الدائب عبر السماء
فإن الكون باتساعه الهائل ، والنجومَ ببعدها الكبير عنا نحن أهل الأرض ،
لا يصل إلينا ضوؤها إلا بعد مدة من الزمن تكون هذه النجوم خلالها قد تركت
تلك المواقع التي كانت فيها وواصلت سيرها في الكون العظيم ، أو ربما انتهت
أعمارها فانفجرت أو انطمست ، لكن ضياءها لا يزال يتلألأ في ظلمة السماء
ويصل إلينا
فالشمس مثلا وهي أقرب نجم إلينا ، إذ إن بعدها عنا يبلغ 150 مليون كيلومتر تقريبا
يصل إلينا ضوؤها في مدة تساوي ثماني دقائق تقريبا
فإن سرعة الضوء هي 300 ألف كيلومتر في الثانية
ولما كانت الشمس تجري لمستقر لها بسرعة 19 كيلومترا في الثانية
فإن هذا يعني أنها خلال هذه الدقائق الثمانية التي يستغرقها الضوء للوصول
إلينا تكون قد تحركت عن الموقع الذي صدر منه الضوء والذي نراها فيه بمسافة
تقارب عشرة آلاف كيلومتر
تلك هي المسافة التي تكون الشمس قد قطعتها بعيدا عن موقعها الذي نراه ،
وهي أقرب النجوم إلينا ، فما بالنا بالمسافات الهائلة التي تكون قد قطعتها
النجوم الأخرى البعيدة التي تبدو لنا صغيرة جدا لبعدها الكبير عنا ، مع ان
حجمها قد يكون أكبر من شمسنا بآلاف المرات
ولكن أبصارنا هي المحدودة ، كما قال الشاعر :
والنجم تستصغر الأبصــار رؤيته والذنب للعين لا للنجم في الصغر
وهناك سبب آخر يجعلنا لا نرى النجوم ، فقد ثبت علميا أن الضوء مثل المادة
ينحني أثناء مروره في مجال تجاذبي مثل الكون ، وعليه فإن الموجات الضوء
تتحرك في صفحة السماء الدنيا في خطوط منحنية يصفها القر،ى الكريم بالمعارج
، ويصف الحركة ذاتها بالعروج
وحينما ينعطف الضوء الصادر من النجم في مساره إلى الأرض فإن الناظر من
الأرض يرى موقعا للنجم على استقامة بصره ، وهو موقع يغاير موقعه الذي صدر
منه الضوء مما يؤكد مرة أخرى أن الإنسان على سطح الأرض لا يمكن أن يرى
النجوم أبدا
إنها دقة القرآن وروعة بيانه ، كان من الجائز أن يكون القسم بالنجوم نفسها ، وهي وحدها آية ، كما أقسم بالشمس والفجر وغيرهما
لكنه سبحانه وتعالى خص مواقع النجوم بالقسم ، ووجه أنظارنا إلى عظمة أمر
خفي عنا ، لكننا سندركه يوما ما بإرادة الله ، وبعد تقدم العلم الذي أثبت
لنا حقيقة مذهلة تتعلق بالنجوم وهي أننا لا نرى إلا صورا قديمة لها حين
كانت في تلك المواقع قبل أن تتجاوزها
ونحن حين نراها لا تكون في ذلك المكان ، بل ما نراه ليس إلا ضوء النجوم في
المواقع السابقة لها ، وهذا كشف علمي جديد يؤكد روعة الإسلام الذي لا
يعارض العلم ولا يكبته ولا يعاديه
وهذه هي رحمة الله الذي وجهنا إلى التأمل والبحث ، ومن أهم ما ينبغي أن
نتفكر فيه تلك المخلوقات التي أقسم الله تعالى بها ، ومنحنا من العقل
والعلم ما نستطيع به أن نتلمس آثار قدرته ودلائل عظمته ومظاهر إعجاز كتابه
المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
فسبحاان الله